عزيزتي لويز
في الغالب، كانت هذه الرسالة ستثير حفيظتك، أنتِ الثورية التي لا تتحمل عبادة الشخصية. لكن، الآن في فرنسا، وكما تلاحظين، وبعد مائة عام على وفاتك، السلطة – التي تثير ريبتنا أكثر من اي وقت مضى – لا تحتفي إلا بذكرى المنتصرين. فهذا بونابارت لا زال يتصدر الصفحات الأولى، بعد مرور قرنين على تتويجه. اما كومونة باريس، أول ثورة خاضها شعب بنفسه ولنفسه، فلم تعد مثار حديث أو قلما يتم التحدث عنها. هذا مع ان ربيع ١٨٧١ أبان ما كان مجرد مشروع آنذاك : إمكانية قيام مجتمع آخر غير ذاك الذي أرسته الرأسمالية. بضعة أسابيع هي مدة قصيرة. لكن عندما تستبق ثورةٌ ما الزمنَ، فتضطرب القياسات والوحدات – فلا بد أن هذه الفترة بَدت لرفاقك ولكِ كما لو دامت قروناً، وبلا شك دهراً، بالنسبة لمناهضي الثورة في فرساي. دهراً يتم حشره في بضع صفحات في كراساتنا التاريخية، دهراً يتم بتره وتقزيمه من طرف المضطهِد، المنتج للفكر الأحادي الذي لا زال سائداً.
اليوم، لو تعرفين، فالقليل من الأزقة التي تحمل اسمك تجاور شوارع دُشنت باسمَيْ تيير وماك- ماهون. أجل، لويز، لا زال نفوذ جلادي الكومونيين مهيمناً، بدون أن يدري عامة الناس ان هؤلاء الجلادَين كانا مسؤولَيْن عن حمامات دم وقتل اكثر من ثلاثين ألف باريسي. لكن جماهير الباريسيين المجهولين، الجائعين الأًباة، وقد أخذ منهم الجهد مأخذاً، تحت حصار عسكري دام شهوراً، هم أحرار وإلى الأبد.
واليوم، في المقاطعة ١٨ بباريس، حيث درَّستِ ودافعت عن الكومونة، نلحظ سياحاً وهم يُصَوِّرون ساكره-كور؛ أغلبهم يجهلون أن هذه البناية – المَعْلَم تم تشييدها لِتُكفِّر الارواح المتمردة، كما روحك، عن خطاياها. في القرن 21، سَكَنَة فرساي يقطنون نويي-سور-سين. إن زقاق بيروني، حيث كنت تطلقين النار، من على المتراس، لعدة اسابيع، للحيلولة دون ان يسترجع العدو مفاتيح المدينة، يُظهر أي آثار قصف للقذائف التي كانت تدك مخابئكم وتقتل أجسامكم وأحلامكم. وعلى قرب من هناك، في لا فالوا حيث دُفنتِ، طردَ المستغِلون جمهورَ الشعب من وسط المدينة، بدعم ٍ كبيرٍ من المتعهدين العقاريين. ورغم كل ذلك، ففي لا فالوا كما في محيطها، بالقرب من لابوت، في شمال باريس، لازال ظلك يحوم ويحمل بدون كلل أملاً بعالم اكثر عدالة وتحرراً. فهذا التغيير الذي طالما تم انتظاره لم تكن لتقبل به جمهورية حديثة مدفوعة بتنامي برجوازية صناعية في عز صعودها، وليس نتيجة انهيار الامبراطورية، المهانة والمهزومة في سيدان، من طرف البروسيين، في فاتح ايلول/ سبتمبر 1870. هذا ما انذرت به هذه الجمهورية بروليتاريا باريس في حزيران / يونيه 1848، عبر مجازر راح ضحيتها آلاف العمال الذين كانوا يعتقدون ان ساعتهم دقت. وفي 1870، لم تغير الطبقات المالكة رأيها. وهكذا فضلت التواطؤ مع العدو « الخارجي » للأمس، البروسيين- بما هم حلفاء اجتماعيون تجمعهم دوماً نفس المطامع المالية – على ان يُؤسسوا تحالفاً غير طبيعي مع العدو « الداخلي » الأبدي، شعب باريس. الأَوْلى بسمارك عوض بلانكي! هذه هي اوامر تيير والكومبارس التابع له. غير أن شعب باريس، في فترة الحرب هاته، كان يمتلك اسلحة ومدافع. وليس سهلاً على المجلس المتراجع الى فرساي ان يسترد عدته. في الواقع، ويوم 17 مارس 1871، كان مقيمو فرساي يريدون ان ينزعوا منكم مصيركم اكثر مما ينزعوا مدافعكم. لكن الاندفاع الشعبي تغلب على الرجعية، والانتفاض على الاذلال، والاخوة بين الجنود والحرس الوطني على القمع. كانت ثورة طبعاً، وجمعت الكومونة مصائب وصعوبات كان عليها تجاوزها، لم تستطع ولم تعرف كيف تتداركها. لكن، لها ان تفتخر بأنها فتحت والى الابد، فجوة في قلاع الافكار السائدة : برهنت على أن الثورة يمكن لها أن تسير جنباً الى جنب مع الديمقراطية. مازالت تجربة الكومونة، رغم حدودها، تخلق صدىً حتى هذه الساعة، حيث تعمل العولمة الرأسمالية على جعل الشعوب تدفع ثمن أزمتها، وتحول كل شيء الى سلعة، بما في ذلك الديمقراطية. فالتوزيع العادل للخيرات يفترض دائماً انتزاعها من أقلية ضئيلة لإرجاعها للاغلبية الساحقة للمستغَلين. ويقتضي دوماً تحدي السلطة الخارجة عن السيطرة التي يطبقها ذوو الامتيازات على الاقتصاد كما على المجتمع بأسره. فالديمقراطية الكومونية كانت تشتغل من الاسفل نحو الاعلى ؛ كانت تمزج بين الاقتراع العام والديمقراطية المباشرة، مع ضمان التعددية الحزبية، وحرية الصحافة والرقابة على المنتخَبين وإمكانية عزلهم.
اسمك، لويز ميشال، صوت يرن لعنةً في آذان خصوم التغيير وغيرهم من مناصري « الواقعية ». فالمحافظون اليمينيون كما اليسار الليبرالي، يُصرون بأن الثورات جميعها تؤدي إلى مآسٍ دامية : مع ذلك، لا أحد منهم يجهل أن جدار ليه فيديريه، القريب من بيير-لاشييز، قد تخضب بدم الثوار الكومونيين، لا بدم رجعيي فرساي.لا تهمهم ذاكرتنا، بل ويحتقرونها. لقد جعل منك إصرارك عنصراً ليس بمستطاع النظام ابتلاعه. ففي مواجهة المحكمة التي تُرسلك الى سجن الأشغال الشاقة، نظرت بازدراء للقضاة وحاكمتِ جلادي الكومونة. هو عالم معكوس بالنسبة لهؤلاء الأعيان المحترمين. وزيادة على هذا، امرأة! ذلك لأنك صغت هذه الثورة بالتأنيث، بل حتى بالنسوية؛ اتخذ النضال من أجل تحرر المرأة صراعاً كبيراً في صفوف الكومونة، إذ كانت ردود الأفعال الذكورية رائجة حتى داخلها. غير ان النساء قُدْنَ المظاهرات الأولى في أيلول/شتنبر ١٨٧٠. وتأبطت مُسعفات مون مارتر، اللواتي أتين لمساعدة الجرحى، سلاح الرجال الذين سقطوا، للقتال عوضاً منهم ولحماية المتاريس. متمردة، مشاكسة، فَظّة… كنتِ تمثلين كل هذا بالنسبة لذوي التصورات المعادية للنساء والحاقدين في عالم فرساي. لم يكن لدى مسؤولي ذاك العالم الا الحقد عليك.
لم تري في نفسك شهيدة ولا قديسة لائكية ولا عذراء حمراء. أكيد، كنتِ تحبين رائحة البارود، لكن لم تكن لديك ميولٌ انتحارية كما يحب بعض الاخصائيين ان يكتشفوا عند كل شخص – خصوصاً إن تعلق الامر بامرأة – تجرأ على مواجهة جيش من العتاة. تعيشين متطلعة للحياة التي تتشبثين بها وتأملين غداً افضل، انتِ الشاعرة، طالبة العلوم، الفنانة، المُدَرِّسة.
لم تكن الثورة بالنسبة لك تأريخ لحظة، كانت التزامَ حياة. ان تكوني ثورية، هو أن تكوني كذلك بغض النظر عن التقلبات الاجتماعية والسياسية. اكثر من عشر سنوات في سجن للأشغال الشاقة في كاليدونيا الجديدة لم تنل من شغفك. و [الكاناك] الذين لازالوا يكافحون من اجل استقلالهم يتذكرونكِ، فأنتِ من القلائل من الكومونيين الذين ساندونهم.. وفور رجوعك من المنفى، بكفاحية اشد، تصديت بشراسة للقمع. وفي الوقت الذي استبدل البعض معاطفهم، رفعت علَمكِ الاسود عالياً رغم السجن والمحاكمات. كنت آناركية، لا تحبين العصبوية وتعلنين انتماءك لعائلة الثوريين. كنت تحبين ان تذكرّي بالآتي: « بالنسبة لي، لا اهتم بتاتاً بالقضايا الخاصة، فأنا- وأكرِّر- مع كل المجموعات التي تهاجم بالمِعول أو بالمفرقعات أو بالنار، البنيان اللعين للمجتمع القديم. « الترشح غير القانوني »(مقال صدر في «الثورة الاجتماعية») يخترق نضالك، مدى السنوات، حتى حدود زمننا، ويطالبنا بالفعل، هنا والآن.
جدتي، المدَرِّسة في لافالوا، هي التي حدثتني عنك للمرة الأولى، وحكت لي كيف دافعتِ عن الشعب. كانت تجهل، على ما اعتقد، ألوان رايتك. ومنذ ذلك الوقت، وانا اهتم عن قرب بها. هذه الراية باللونين الأحمر والأسود هي التي اريد ان تخلد في هذه الرسالة.
لك انت، لويز، تحياتي الثورية.
أوليفييه بيزانسونو
ترجمة محمد بوريشة