سامح سعيد عبود 6 ديسمبر٢٠١٠
أصبحت لا أندهش حين أرى أناس على قدر واسع من الذكاء والمعلومات يحملون فى عقولهم بجانب معلوماتهم العميقة أفكارا غاية فى السذاجة والتخلف والجهالة ،وأصبحت لا أصدم حين أرى هؤلاء النبهاء وهم يبررون أوهامهم الغبية بمنطق التعسف والتعصب الذى لا يليق بذكائهم ،ولا يستقيم مع علمهم ،وذلك لأنى أعتقد بوجود مجموعة من الأسباب المتنوعة لهذه الظاهرة ،وهى أن هؤلاء الأذكياء والمثقفون والعلماء إما أن لهم مصلحة فيما يدعون أو أن ثمة عيبا ما فى طريقة تفكيرهم أو خللا ما فى طريقة تعلمهم وتثقفهم ، أو أنهم شخصيات مأزومة نفسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا .ولذلك تجد راحتها وحل مشاكلها فى الإيمان بالخرافات والأوهام والهرب إلى دفء الخيال ،والانغلاق حول ذواتهم المتعبة والقلقة هربا من وطأة الواقع المرعب والحياة القاسية،أو أنهم أشخاص يجدون سهولة فى أن يجمعوا فى آن واحد بين العقل العلمى الموضوعى والعواطف الوهمية الذاتية ،أو أخيرا هم يعبرون بشكل غير مباشر عن الأزمة الحضارية للرأسمالية فى طور هبوطها التاريخى، والتى أخذت العقول المثقفة والمتعلمة للطبقات السائدة فيها تتبنى المواقف الغير علمية بعدما كانت تأخذ بالمواقف العكسية فى لحظات صعودها التاريخى ..أما كيف يحدث كل هذا ؟فهو ما سيتضح من تفصيل ما تم ذكره من أسباب على النحو التالى.
منذ ثلاثمائة عام كان يسهل على أى إنسان لديه بعض والوقت وحب المعرفة أن يلم بكل معارف عصره ، وأن يصبح بذلك عالما موسوعيا من خلال قراءة بضعة مئات من الكتب هى خلاصة ما أنتجته الحضارة التى يعاصرها.وقد أصبحت هذه العملية صعبة للغاية فى القرن الثامن عشر، وأصبحت مستحيلة فى القرن التاسع عشر، وإن ظلت ممكنة بصعوبة فى إطار العلم الواحد كما ظلت إمكانية الإلمام بالخطوط الرئيسية للمعرفة الموسوعية متاحة لمن يطلبها بكثير من الصعوبة،إلا أن هذا أصبح مستحيلا فى القرن العشرين حتى فى إطار العلم الواحد بل وفى إطار أى فرع من فروع أى علم .وتزداد المسألة استحالة يوما بعد يوم إن لم يكن ساعة بساعة خاصة فى العلوم الطبيعية وباطراد مذهل..فالمعلومات فى كل مجال من مجالات المعرفة تتزايد بسرعات أكبر من أن تستوعبها مئات العقول البشرية فائقة التميز ،والمتفرغة تماما للمعرفة العلمية .واطراد المعلومات وتغيرها المستمر وتنوعها المذهل أصبح لا يتيح لأى إنسان مهما بلغ ذكاءه وتفرغه وعمره وإمكانياته إلا الإلمام بالخطوط العريضة جدا للمعرفة البشرية وهذا بالتحديد مربط الكارثة .
نحن لا يتاح لنا فى سنوات دراستنا إلا الإلمام السطحى بما ندرسه فى المدارس والجامعات المملوكة للطبقات المالكة والحاكمة والسائدة بشكل مباشر أو بواسطة حكوماتها ،سواء أكان هذا فى الدول الرأسمالية متقدمة أو متخلفة أو فى الدول البيروقراطية التى كانت تدعى بالاشتراكية ..وهم على السواء لا يعنيهم من عملية التعلم سوى تخريج من يدافعون عنهم ، ويقدمون من أجل استمرار سيادتهم وحكمهم عصارة علومهم المجزأة والمنفصلة على نحو متعسف عن غيرها من العلوم ،ولا المرتبة بشكل يتيح لنا فهم العالم من حولنا على النحو الصحيح،فهم يقدمون معلومات مسطحة وغير مترابطة فى شكل أقسام متخصصة تقدم لمجموعات من الطلاب، لا يتاح لهم الإلمام بالجوانب الأخرى من الواقع فيزداد جهلهم به حين لا ينظرون له من كافة جوانبه إن لم ينظروا له إلا من ذلك الجانب الضيق الذى درسوه فى معاهد الدرس.
فالأغلبية الساحقة من المتعلمين لا تتعلم كى تفهم حقيقة ما بل للحصول على شهادة ما ، ومعظم الباحثين يلوث بحثهم عن الحقيقة الغرض فى الكسب واسترضاء ذوى النفوذ والسلطة والمال ، ومن ثم لا يبحثون كى يكونوا نظرة صحيحة عن العالم .بقدر ما يتعلمون ويبحثون للحصول على ما يؤهلهم لخدمة الطبقات السائدة والحاكمة بعقولهم المبرمجة كأجهزة الكومبيوتر ،إلا أنها عاجزة مثله عن التفكير العلمى المستقل عن من برمجها وبما برمجها.ذلك لأن هذا اللون من التفكير المستقل لم تتعلمه أو تتعوده على الإطلاق ،ومن هنا لم أندهش حين قرأت يوما عن عالم فيزياء نووية هندى شهير شاهدت صورته فى إحدى المجلات يسجد فى خشوع لآلهته الوثنية ،فقد تعلم هذا العالم على نحو يجعله يفصل بين علمه الواسع بالفيزياء الذى أهله لهذا المركز المرموق وبين معتقداته الغيبية ،وهكذا يجمع فى آن واحد بين المنهج العلمى فى إطار عمله البحثى والمنهج الخرافى فى إطار المعبد .وفى الحقيقة أن هذا العالم ليس ظاهرة فريدة فى عالم اليوم بل هو الظاهرة الأكثر انتشارا الآن.
فى الحقيقة أنى أرثى لحال كل من تابعوا المشروع الطموح الذى كان هذه الكتيب بدايته، وابدوا ملاحظات حول عدم أهمية الموضوع ،وبأنه لا يخصهم ،وأنه لا يوجد ما يشجعهم على متابعته ، فمنذ بدأت هذه الفكرة المتهورة وما استلزمه منى هذا من قراءات كثيرة فى مجالات معرفة بعيدة كل البعد عن التخصص المهنى الذى أجبرت عليه عبر نظام تعليم متخلف ورجعى لا ينمى كافة ملكات وإمكانيات الإنسان ، وإنما هو يبتر بعضها ويصيب أخرى بالضمور وينمى أخرى وهكذا ..أقول أنى منذ شرعت فى كتابة هذا المشروع والتى كان من الطبيعى أن أبدأه بالاهتمام بالعلوم الطبيعية قد تملكتنى نشوة حقيقية من المتعة وهى متعة معرفة حقيقة جزء هام من الواقع وهو ما تتضاءل أمامه سائر المتع ولا أعتقد أن هذا الشعور كان سينتابنى لو كنت مجبرا على هذه القراءة عبر نظام التعليم ..هذه المتعة يحرم منها كل الطلاب ،عندما يحشرون على مقاعد الدرس وترتبط عملية التعلم شرطيا لديهم بالقهر والتلقين عبر نظام تعليمى جامد ، فتستأصل منهم غريزة حب الاستطلاع منذ أول تجربة منظمة للتعلم. ولذلك تتوجه تلك الغريزة عكسيا وكنوع من رد الفعل الاحتجاجى إلى كل ما هو تافه وسطحى ولا يعنيهم بحق كمتابعة أخبار نجوم السينما والغناء والألعاب الرياضية ونجومها ومسابقاتها ، والذين يبذلون من أجلها من الجهد أضعاف ما يبذلونه فى عملية التعلم الجاد وبسعادة غامرة وجدية أكثر.
ولأن الإنسان فى المجتمع الرأسمالى يتحول لمجرد سلعة تتحدد قيمتها التبادلية التى تحدد سعرها بما يمكن أن تباع به فى السوق الرأسمالى ،وهذا يتوقف على ما يملكه هذا الإنسان من إمكانيات مادية وعقلية، وحجم كل من العرض من هذه الإمكانيات و الطلب على هذه الإمكانيات فى السوق بصرف النظر عن القيمة الاستعمالية لتلك الإمكانيات .ومن ثم يصبح من المهم له كما هو مهم للمجتمع كذلك رفع قيمة ما يملكه من إمكانيات عبر حصوله على شهادة دراسية رسمية تؤكد للسوق أنه متخصصا على نحو ما فيما يطلبه السوق من إمكانيات يمكن تبادلها مع إمكانيات أخرى، وبالتالى تصبح المعرفة زائدة لا لزوم لها إلا فى حدود أهميتها فى السوق ،وأهميتها لمن يمكن أن يشترى السلعة وهو غالبا الرأسمال أو السلطة المعبرة عنه.
وفى مدارسنا يدرسون للطلاب الكيمياء والفيزياء والرياضيات فى شكل معادلات مطلسمة أى غير مفسرة لكى يحفظوها على ظهر قلب ، دون أن يفهم الطلاب ما يحفظوه ودون أن يسألوا عن ما يجب أن يفهموه ، وهو لماذا ترتبط مثلا الذرات وكيف؟ ، والذى يربطها ويفككها عن بعضها ؟ ، وهل من ضرورة وراء هذا أم أن الأمر متوقف على إرادة ما أو هدف معين ؟ وهم لا يكترثون بذكر طاقه الترابط التى تلزم لأحداث الترابط بين الذرات أو التى تنتج عن تفككها ، وبالتالى يتركون الطلاب الذين لم يتعودوا لا على المناقشة أو الفهم أو النقد ، ولم يتدربوا على ممارسة ملكات التحليل والتركيب والربط ، وإنما يقتصر الأمر لديهم على التلقى والحفظ على غير فهم بلا ثقة غالبا فيما يحفظ ، وبالتالى يسهل على عقليات غير نقدية تعودت على المصدر الواحد والرأى الواحد فى كل شىء بما فى ذلك المعرفة والعلم ، أن تفسر شتى الظواهر من حولها بشكل متعسف ومتعصب ، وأن تصبح أسيرة التفسيرات الجاهزة مهما بلغت درجه سذاجتها ، وان تظل طيلة حياتها أسيرة ما هو شائع ومألوف من معتقدات وأراء ، وأن يظل أصحابها سجناء ذواتهم ورغباتهم وعواطفهم ، مذعورين من النظر خلف جدرانها المظلمة ، أما ما يجب أن يتعلموه ليصبحوا على العكس من هذا ، فأبسط ما فيه هو المقارنة الموضوعية بين الأراء المختلفة عبر تاريخ العلم، وعلى سبيل المثال حول لماذا و كيف تتم التفاعلات الكيمائية والفيزيائية والحيوية .. هل وراءها إرادة أو هدف أو عقل أم إنها تتم وفق ضرورة مستقلة عن أى إرادة أو هدف أو عقل ، وبالتالى يدركوا من خلال المنهج العلمى فى التفكير ضرورة عدم إغفال طاقه الترابط الداخلة أو الخارجة فى عمليات التفاعل الكيميائى باعتبارها السبب الكامن وراء هذه التفاعلات.
وفى الحقيقة فأن الأشياء لا تؤثر فى الأشياء الأخرى إلا من خلال خواصها الكامنة فى طبيعتها ، فشفرة السكين تقطع الخبز لأنها حادة لدرجه إنها تضغط بقوة هائلة بالنسبة لحدها حتى تفصل بين جزئيات الخبز ، أما العصا السميكة فهى لا تستطيع أن تحدث نفس النتيجة لأنها ليست ذات شفرة حادة مثل السكين . فالعلاقة بين السبب والنتيجة هى عملية يؤثر فيها المؤثر على المتأثر به بما يملكه من خواص ، فمثلاً تؤثر الحرارة لأحداث التفاعل الكيميائى من خلال اكتساب الإلكترون لكمات الطاقة الحرارية ، وهى فى النهاية عملية يكون من نتيجتها انتقال الإلكترون من مدار إلى مدار آخر وهى عمليه أخرى يكون من نتيجتها ، تحلل كائن مادى و تكون كائن مادى آخر سواء أكان ذرة أو جزئ.
الذرات يمكن أن توجد فى حاله حرة أو متحدة مع بعضها البعض ، أو مع ذرات عناصر أخرى مكونه الجزئيات ، وذلك فى الظروف المناسبة من حرارة وضغط ، والذرات لا تكف عن الحركة الحرارية بسر عات كبيرة حيث يجرى بينها وبين غيرها من الذرات تبادل لا ينتهى للفوتونات ، وهو الأمر الذى لا يمكن إيقافه. و الفيزياء المعاصرة يمكنها أن تخبرنا الشىء الكثير فى هذا المجال،والفيزياء تنبؤنا بأن الحركة غير المرئية للأجزاء الصغيرة التى تتركب منها المادة لن تقف أبداً تحت أى ظروف.فالشىء أى شىء وما يحدث له من حركة وتغير لا يمكن الفصل بينهما.
وهكذا فعملية التعليم فى كل دول العالم لا تستهدف تربية عقلية نقدية علمية ولا مساعدة الطلاب على تكوين نظرة صحيحة للعالم من حولهم بل تستهدف تربية عقول مبرمجة متخصصة ذكية فحسب فى إطار ما هى متخصصة فيه. وجيوشا من البشر الآليين الذين لا يعرفون سوى تنفيذ أوامر سادتهم من يملكون ويحوزون ويسيطرون على وسائل التعليم والثروة والسلطة .أما المتبقى من وقتهم بعد يوم من العمل فليكن للاستمتاع بكل وسائل التسلية والإثارة والثقافة الشعبية الاستهلاكية والفنون الشكلية عبر كافة أجهزة الإعلام والاتصال والثقافة الحديثة ، والتى لا هدف لها إلا تقديم التسلية والإثارة الساذجة والرخيصة ، والتى تتلاعب بالعقول لتسطحها فى النهاية، وبالغرائز فتصيبها بالشبق .والتى تحرم العقل من القدرة على التفكير العميق والسليم فيما يدور حولنا .وتلك الأجهزة غالبا ما تقدم الجهل أكثر من العلم، والخرافة فى صورة العلم فى معظم الوقت .وهى أن أعطت معلومة فلتكن معلومة مجزئة مشوهة معزولة عن ما هو مربوط بها من معلومات أخرى توضحها ،وهى بالتالى لا تمس سوى قشور العلم ..وهو ما تفعله أجهزة التعليم الرسمية على نحو مختلف،ومن هنا يتخرج الجميع من المدارس والجامعات ،وهم يحملون شهادات دراسية أقرب إلى ألقاب الشرف القديمة ،ليبدءوا رحلتهم المضنية فى البحث عن مستقبلهم الفردى الخاص فلا يجدونه إلا فى خدمة السلطة ورأسالمال فلا وقت لديهم للمعرفة إلا فى حدود هذا الهدف والمتعة الخاصة ،ولا ميل لديهم للتفكير العلمى وبالتالى يصبح معظمهم عاجزين عن تعميق معرفتهم بالجوانب المختلفة للواقع من حولهم ..أما إذا حدث وأصر أحد ما على التمرد على هذا الوضع ،وحاول البحث عن أصول المعرفة فى خطوطها العريضة جدا رابطا بين أجزاءها المختلفة، فأنه سيمارس بطولة بلا شك لأسباب منها أن ما سيفعله لن يزيد من قيمته اجتماعيا أو بمعنى آخر قيمته التبادلية فى السوق، إن لم يفسد علاقاته الاجتماعية ، ويقلل من قيمته التبادلية فعلا ، ولن يضيف إليه فى إطار مفاهيم السوق وقيمه. كما أنه لابد وأن يكون من ميسورى الحال إلى حد أن يتمكن من التفرغ لهذه المهمة أما إذا كان من المضطرين للبحث عن مصدر للرزق ، فأن المهمة ستصبح مستحيلة .وأخيرا عليه أن يكون ذو إرادة قوية تجعله قادرا على مقاومة كل مغريات التسلية الفارغة عبر وسائل الإعلام والاتصال ، وهو الأمر الذى يعنى تكون دافع لديه أقوى من تلك المغريات يمكنه من المقاومة ،دافع يتجاوز منطق الربح والخسارة المالية .
وإزاء هذا الوضع أصبح للبورجوازية أن تقدم من خلال وسائل إعلامها وثقافتها ما تشاء من معلومات مشوهه وغير دقيقة لاثبات ما تشاء مصالحها فى الربح والسيطرة من خرافات و أوهام وأساطير،وكل ذلك لكى تحافظ على وجودها وسيطرتها وأرباحها ،وهو الأمر الذى يوجد ويستمر باغتيال وعى الخاضعين لاستغلالها وسيطرتها وقهرها عبر غسيل العقول المستمر والتلاعب بالمشاعر الإنسانية من خلال امتلاء الصحف وشاشات التليفزيون وأخيرا الإنترنت بالمشعوذين والدجالين وهم يرتدون ثوب العلم ليثبتوا الخرافة باسمه ،وهكذا نرى زيادة مساحات الخرافة وانحسار مساحات العلم الصحيح، وقد انتشرت بذلك تجارة الإثبات بالعلم لما لا يمكن إثباته بالعلم من خرافات وأساطير حتى أصبحت تجارة مربحة للغاية يشارك فى تعاطيها أصحاب ألقاب علمية لطخوها فى أوحال السوق، ومواهب إعلامية معروضة لأعلى سعر..بل ووصلت المسألة لخلق أساطير عصرية والترويج لها فى عالم فقد إيمانه بالأساطير القديمة.مثل قارة اطلانطا المفقودة ومثلث برمودا المرعب والشكل الهرمى والأطباق الطائرة.
والمنهج المتبع فى هذا هو استغلال عاطفية المتلقين وتعصبهم لعقائدهم المتوارثة أو حتى رغبتهم فى التمرد على هذه العقائد .وانشغالهم فى البحث عن ما يوفر احتياجاتهم المادية عن التفكير العميق والمعرفة الصحيحة .وميلهم المريض لتصديق الخرافات والتشبث بكل ما يسمعوه لتأكيدها والشك فيما ينفيها بل رفضهم لكل ما ينفى الخرافة أحيانا لمجرد هذا النفى حتى ولو كان هذا ناتج العلم الصحيح …وفى نفس الوقت فأن هؤلاء التجار يعتمدون على أنه من السهل أن تقنع أى إنسان بأى شىء بأن تصدر حديثك بعبارة قد ثبت علميا لما قد بلغه العلم من نفوذ أسطورى كاسح على عقول معظم الناس فى العصر الحديث، فأنك تستطيع إقناع معظم الناس بأى شىء اعتمادا على لغة العلم بغير علم مشفوعة بالعبارة السحرية قد ثبت علميا وفى الحقيقة إنك ستصبح غير متأكد مما إذا كان ما قد تلقيته قد ثبت علميا أم لا مادمت لا تملك أى وسائل متاحة للتأكد ..ذلك إذا كنت ذا عقل نقدى تعرف أن كل خبر قابل للصدق والكذب وأن معيار الصدق فى الخبر هو اختباره فى الممارسة العملية، أما إذا كنت ذو عقل انقيادى تصدق كل ما تسمع أو بالأحرى ما تود تصديقه مما تسمع أو تقرأ فأنه سيكون من السهل إقناعك بالأعاجيب وأنت فى هذه الحالة غالبا لا تحتاج لمعرفة العلاقة بين ما قد ثبت علميا فعلا وبما يريد محدثك إقناعك به ،وهذا هو ما تريده الرأسمالية بالضبط ،فهى فى أمس الحاجة لمهندسين وأطباء وعلماء يطبقون الحقائق العلمية فى حدود تخصصاتهم الدقيقة .ومستهلكين لكل هذه التطبيقات ،دون ما تبنى للمنهج العلمى فى التفكير خارج ممارستهم المهنية لتخصصاتهم ،حتى ولو آمنوا بالخرافات المنافية للعلم ،بل وأنها تعيق متعمدة تطوير كل هؤلاء النابهين لنظرة علمية شاملة للوجود من حولهم ،وكل هذا من خلال أنظمتها التعليمية والبحثية ووسائلها الإعلامية والثقافية .
وقد أصبح كل إنسان لدية فكرة معينة ولو جنونية كمعجزة الشكل الهرمى أو الأطباق الطائرة ،ويبغى فرضها وإيهام الناس بها فأنه يجد وسيلته فى ربطها باكتشافات ونظريات العلم الحديث على نحو متعسف وغير منطقى،فهى أفضل و أسرع الطرق للإقناع فضلا عن الكسب المادى والأدبى المذهلين..كما يفعل بعض الفلاسفة والمفكرين المعادين للعلم ، والذين من منطلق قناعتهم المسبقة وأهدافهم المحددة سلفا ومن حيث أنهم يريدون إثبات ما يريدونه بأى وسيلة ،إلا أننا نجدهم ما أن يسمعوا عن أى معلومة حتى ولو غير مؤكدة أو غير دقيقة حتى يحاولون استخدامها لإثبات قناعتهم المسبقة.
ويشمل هذا أيضا أدعياء العلمية ،فقد شاءت الإرادة الستالينية المعبرة عن البيروقراطية السوفيتية أن ترفض الدوائر العلمية الرسمية علم الوراثة بالكامل لأسباب تتعلق باستناد النازية على نظرية الوراثة فى مزاعمها العنصرية ،ورغم عدم تعارض حقائق هذه النظرية فى حد ذاتها مع النظرة العلمية للعالم ،والتى ألحق بها ستالين ومن ساروا على دربه تشويها مزريا ،حيث تحولت على أيديهم لتعاليم مدرسية جامد أقرب ما تكون إلى تعاليم الدين منها بقوانين العلم ،وهى بذلك قلبت رأسا على عقب لتتناقض مع جوهرها النقدى العلمى لتتفق مع مصالح البيروقراطية المدعية لكل من العلمية والثورية والتقدمية.